فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَصْفُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ وَآيَاتِهِ، وَذِكْرُ حَظِّ الشَّيْطَانِ مِنْهُمْ وَإِشْغَالِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ الْخَادِعَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ أَمْرَ الْآخِرَةِ لَيْسَ بِالْأَمَانِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ اللهِ بِالْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ بِتَبْدِيلِ الْأَجْيَالِ وَالْآجَالِ، ثُمَّ زَادَ هَذَا بَيَانًا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَبَيَّنَ أَنَّ صَفْوَةَ الْأَدْيَانِ الَّتِي يَنْتَحِلُهَا النَّاسُ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فِي إِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَإِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَعَبَّرَ عَنْ تَوَجُّهِ الْقَلْبِ بِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَعْظَمُ مَظْهَرٍ لِمَا فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِقْبَالِ وَالْإِعْرَاضِ وَالْخُشُوعِ وَالسُّرُورِ وَالْكَآبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُظْهِرُ بَعْضُ النَّاسِ الْخُضُوعَ أَوِ الِاحْتِرَامَ لِلْآخَرِ بِإِشَارَةِ الْيَدِ، وَلَكِنَّ هَذَا يَكُونُ بِالتَّعَمُّلِ وَيُعْرَفُ بِالْمُوَاضَعَةِ، وَمَا يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ هُوَ الْفِطْرِيُّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى السَّرِيرَةِ، وَهُوَ يَتَمَثَّلُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْجَبْهَةِ وَالْحَاجِبَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْحَرَكَةِ، فَإِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ هُوَ تَرْكُهُ لَهُ، بِأَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي طَلَبِ حَاجَاتِهِ وَإِظْهَارِ عُبُودِيَّتِهِ، وَهُوَ كَمَالُ التَّوْحِيدِ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَهُوَ إِحْسَانُ الْعَمَلِ- خِلَافًا لِلْجَلَالِ فِيهِمَا إِذَا عُكِسَ- وَاتِّبَاعُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ يُرَادُ بِهِ فِيمَا يَظْهَرُ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [42: 13]، فَإِقَامَةُ الدِّينِ مَرْتَبَةٌ فَوْقَ مَرْتَبَةِ التَّدَيُّنِ الْمُطْلَقِ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِحَيْثُ يَقُومُ بِنَاؤُهُ وَيَثْبُتُ، وَعَدَمُ التَّفَرُّقِ فِيهِ وَالتَّعَادِي بَيْنَ أَهْلِهِ.
{وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} أَيْ: اصْطَفَاهُ لِتَوْحِيدِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فِي زَمَنٍ وَبِلَادٍ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْوَثَنِيَّةُ، وَقَوْمٍ أَفْسَدَ الشِّرْكُ عُقُولَهُمْ وَدَنَّسَ فِطْرَتَهُمْ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَالِصًا مُخْلِصًا لِلَّهِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ اللهُ خَلِيلًا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُكْرِمَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ أَطْلَقَ عَلَيْهِ مَا شَاءَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرَ مِنْ لَفْظِ الْخَلِيلِ فِي اسْتِعْمَالِنَا لَهُ يَتَنَزَّهُ اللهُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْخُلَّةَ بَيْنَ الْخَلِيْلَيْنِ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ مِنْ مَادَّةِ التَّخَلُّلِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِامْتِزَاجِ وَالِاخْتِلَاطِ اهـ.
أَقُولُ: يُطْلَقُ الْخَلِيلُ بِمَعْنَى الْحَبِيبِ أَوِ الْمُحِبِّ لِمَنْ يُحِبُّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ خَالِصَةً مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِحَيْثُ لَمْ تَدَعْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا مَوْضِعًا لِحُبٍّ آخَرَ، وَهُوَ مِنَ الْخُلَّةِ- بِالضَّمِّ- أَيِ الْمَحَبَّةُ وَالْمَوَدَّةُ الَّتِي تَتَخَلَّلُ النَّفْسَ وَتُمَازِجُهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ** وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا

وَاللهُ يُحِبُّ الْأَصْفِيَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَيُحِبُّونَهُ، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ كَامِلَ الْحُبِّ لِلَّهِ؛ وَلِذَلِكَ عَادَى أَبَاهُ وَقَوْمَهُ وَجَمِيعَ النَّاسِ فِي حُبِّهِ تَعَالَى وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَلِيلَ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَلَّةِ- بِفَتْحِ الْخَاءِ- وَهِيَ الْحَاجَةُ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ يَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى قَالَ فِي الْحَاجَاتِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [26: 78، 79]، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْمَلُ، وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْخُلَّةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ؛ لِيَتَذَكَّرَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْصِ؛ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَهْلُ الْأَثَرِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أُولَئِكَ الْمُتَفَاخِرِينَ بِدِينِهِمُ الْمُتَبَجِّحِ كُلٌّ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَدِ اتَّخَذَهُ اللهُ خَلِيلًا بِأَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِسَلَامَةِ الْفِطْرَةِ وَقُوَّةِ الْعَقْلِ وَصَفَاءِ الرُّوحِ وَكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ بِالْوَحْيِ وَالْفِنَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، فَأَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ؟! وَلَا تَكَادُ تُوجَدُ كَلِمَةٌ فِي اللُّغَةِ تُمَثِّلُ هَذِهِ الْمَعَانِي غَيْرُ كَلِمَةِ الْخَلِيلِ، وَأَمَّا لَوَازِمُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ خَاصَّةٌ بِهِمْ فَيُنَزَّهُ اللهُ عَنْهَا بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، ثُمَّ قَالَ عز وجل: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِ شَيْءٍ مُحِيطًا}، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: خُتِمَ هَذَا السِّيَاقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِفَوَائِدَ: (إِحْدَاهَا) التَّذْكِيرُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى إِنْجَازِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَإِنَّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ خَلْقًا وَمُلْكًا، وَهُوَ أَكْرَمُ مَنْ وَعَدَ وَأَقْدَرُ مَنْ أَوْعَدَ، (ثَانِيهَا): بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ وَحْدَهُ لِإِسْلَامِ الْوَجْهِ لَهُ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَهَذَا هُوَ رُوحُ الدِّينِ وَجَوْهَرُهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ وَغَيْرُهُ لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا، فَكَيْفَ يَتَوَجَّهُ الْعَاقِلُ إِلَى مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَيَتْرُكُ التَّوَجُّهَ إِلَى مَالِكِ كُلِّ شَيْءٍ أَوْ يُشْرِكُ بِهِ غَيْرَهُ فِي التَّوَجُّهِ وَلَوْ لِأَجْلِ قُرْبِهِ مِنْهُ؟
(ثَالِثُهَا): نَفْيُ مَا رُبَّمَا يَسْبِقُ إِلَى بَعْضِ الْأَذْهَانِ مِنَ اللَّوَازِمِ الْعَادِيَّةِ فِي اتِّخَاذِ اللهِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا كَأَنْ يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّ هُنَالِكَ شَيْئًا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ أَوِ الْمُقَارَبَةِ فِي حَقِيقَةِ الذَّاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِلْكٌ لَهُ وَمِنْ خَلْقِهِ مَهْمَا اخْتَلَفَتْ صِفَاتُ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَرَاتِبُهَا فِي أَنْفُسِهَا وَبِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا هِيَ نُسِبَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمَعْبُودُ وَهِيَ مَخْلُوقَاتٌ مَمْلُوكَةٌ عَابِدَةٌ لَهُ خَاضِعَةٌ لِأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، إِحَاطَةَ قَهْرٍ وَتَصَرُّفٍ وَتَسْخِيرٍ، وَإِحَاطَةَ عِلْمٍ وَتَدْبِيرٍ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فَسَّرُوا الْإِحَاطَةَ بِالْقُدْرَةِ وَالْقَهْرِ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ إِحَاطَةَ وُجُودٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ وَجُودُهَا مِنْ ذَاتِهَا، وَلَا هِيَ ابْتَدَعَتْ نَفْسَهَا، وَإِنَّمَا وُجُودُهَا مُسْتَمَدٌّ مِنْ ذَلِكَ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ الْأَعْلَى، فَالْوُجُودُ الْإِلَهِيُّ هُوَ الْمُحِيطُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُخْلِصَ الْخَلْقُ لَهُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْعِبَادُ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ.
(يَقُولُ مُحَمَّد رَشِيد رِضا مُؤَلِّفُ هَذَا التَّفْسِيرِ): هَذِهِ الْآيَاتُ كَانَتْ آخِرَ مَا فَسَّرَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ مُحَمَّد عَبْده فِي الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَجَزَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَسَنَسْتَمِرُّ فِي التَّفْسِيرِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنَّا مَحْرُومِينَ فِي تَفْسِيرِ سَائِرِ الْقُرْآنِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ الَّتِي كَانَتْ تَهْبِطُ مِنَ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ عَلَى عَقْلِهِ الْمُنِيرِ إِلَّا فِي الْجُزْءِ الثَّلَاثِينَ، فَإِنَّهُ كَتَبَ لَهُ تَفْسِيرًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 1323 هـ، وَقَدْ تُوُفِّيَ شَهْرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى وَنَفَعَنَا بِهِ، وَكَتَبْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَدِينَةٍ بُمْبَى أَوْ (بُومْبَايْ) مِنْ ثُغُورِ الْهِنْدِ فِي غُرَّةِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ 1330هـ، وَاللهُ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِ هَذَا التَّفْسِيرِ، إِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)}
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وديننا خير الأديان. فقال الله تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن}.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى موسى بالكلام، وإبراهيم بالخلة».
وأخرج ابن جرير والطبراني في السنة عن ابن عباس قال: إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدًا بالرؤية.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري وابن الضريس عن معاذ بن جبل. أنه لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ {واتخذ الله إبراهيم خليلًا} فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم.
وأخرج الحاكم وصححه عن جندب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى: «إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا».
وأخرج الطبراني وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، وإن صاحبكم خليل الله، وإن محمدًا سيد بني آدم يوم القيامة. ثم قرأ {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} [الإسراء: 79].
وأخرج الطبراني عن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الأنبياء يوم القيامة كل اثنين منهم خليلان دون سائرهم. قال فخليلي منهم يومئذ خليل الله إبراهيم».
وأخرج الطبراني والبزار عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة قصرًا من درة لا صدع فيه ولا وهن، أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلًا».
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟!.
وأخرج الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس قال: «جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: إن الله اتخذ من خلقه خليلًا فإبراهيم خليله. وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله موسى تكليمًا. وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته. وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم فسلم فقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم ان إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى كليمه، وعيسى روحه وكلمته، وآدم اصطفاه الله ربه كذلك، ألا وإني حبيب الله ولا فخر، وأنا أول شافع، وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله، فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر».
وأخرج الزبير بن بكار في الموفقيات قال: أوحى الله إلى إبراهيم: أتدري لم اتخذتك خليلًا؟ قال: لا يا رب. قال: لأني اطلعت إلى قلبك فوجدتك تحب أن ترزأ ولا ترزأ.
وأخرج ابن المنذر عن ابن أبزى قال: دخل إبراهيم عليه السلام منزله، فجاءه ملك الموت في صورة شاب لا يعرفه، فقال له إبراهيم: بإذن من دخلت؟ قال: بإذن رب المنزل. فعرفه إبراهيم فقال له ملك الموت: إن ربك اتخذ من عباده خليلًا. قال إبراهيم: ونحن ذلك! قال: وما تصنع به؟ قال: أكون خادمًا له حتى أموت. قال: فإنه أنت. وبأي شيء اتخذني خليلًا؟ قال: بأنك تحب أن تعطي ولا تأخذ.
وأخرج البيهقي في الشعب عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلًا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد».
وأخرج الديلمي بسند واهٍ عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس: «يا عم أتدري لم اتخذ الله إبراهيم خليلًا؟ هبط إليه جبريل فقال: أيها الخليل هل تدري بم استوجبت الخلة؟ فقال: لا أدري يا جبريل! قال: لأنك تعطي ولا تأخذ».
وأخرج الحافظ أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في فضائل العباس عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم اتخذه خليلًا، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، ثم اصطفى من ولد إسماعيل نزارًا، ثم اصطفى من ولد نزار مضر، ثم اصطفى من مضر كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشًا، ثم اصطفى من قريش بني هاشم، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطلب، ثم اصطفاني من بني عبد المطلب».
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه وابن عساكر والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{اتخذ الله إبراهيم خليلًا} وموسى نجيًا، واتخذني حبيبًا، ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيِّي».
وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن علي بن أبي طالب قال: أوّل من يكسى يوم القيامة إبراهيم قبطيتين والنبي صلى الله عليه وسلم حلة حبرة وهو عن يمين العرش. والله أعلم. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال النيسابوري:

التأويل: {لا خير في كثير} من نجوى النفس والهوى والشيطان إلاّ فيمن أمر بالخيرات وهو الله بالوحي وبالخواطر الرحمانية ثم خواص عباده. {ومن يشاقق الرسول} أي يخالف الإلهام الرباني {ويتبع غير سبيل المؤمنين} بأن يتبع الهوى وتسويل النفس والشيطان {نوله ما تولى} نكلله بالخذلان إلى ما تولي {ونصله} بسلاسل معاملاته. {جهنم} الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. {إن الله لا يغفر أن يشرك به} ولو كان مغفورًا لم يشرك به {ومن يشرك بالله} الآن {فقد ضل ضلالًا بعيدًا} وهو الضلال بالإضلال الأزلي فافهم {إن يدعون من دونه إلاّ إناثًا} صفات ذميمة يتولد منها الشرك {وإن يدعون إلاّ شيطانًا مريدًا} هي الدنيا كما قال عليه السلام: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه» والنصيب المفروض طائفة خلقهم الله أهلًا للنار {ولأضلنهم} كذب عدو الله فإنه مزين وليس إليه من الضلالة شيء كما قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت مبلغًا وليس إليّ من الهداية شيء» {وعد الله حقًا} وهو قوله: «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي» {ليس بأمانيكم} يعني عوام الخلق الذين يذنبون ولا يتوبون ويطمعون أن يغفر الله لهم وقد قال: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا} [طه: 82] و{ولا أماني أهل الكتاب} علماء السوء الذين يغرون العوام بالرجاء الطمع ويقطعون عليهم طريق الطلب والاجتهاد فليس من تمنى نعمته من غير أن يتعنى في خدمته كمن تعنى في خدمته من غير أن يتمنى نعمته {من يعمل سوءًا يجز به} في الحال بإظهار الرين على مرآة قلبه كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أذنب عبد ذنبًا نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ورجع منه صقل» {ولا يجد له من دون الله وليًا} يخرجه من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة والتوبة. {ولا نصيرًا} ينصره بالظفر على النفس الأمارة {من ذكر أو أنثى} أي من قلب أو نفس {ومن أحسن دينًا} يعني من محمد صلى الله عليه وسلم حين أسلم سره وروحه وقلبه ونفسه وشيطانه كما قال: «أسلم شيطاني على يدي» ومن إسلام نفسه يقول يوم القيامة: «أمتى أمتي» حين يقول الأنبياء نفسي نفسي {وهو محسن} بمعنى أنه من أهل المشاهدة يعبد الله كأنه يراه بل يراه ولأنه أحسن خلقه العظيم إلى أن بلغ حد الكمال والختم. واتبع ملة إبراهيم بأن الله اتخذه خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا. قيل لمجنون بني عامر: ما اسمك؟ قال: ليلى. وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم. ما اسمك؟ قال: الحبيب. فكان محمد صلى الله عليه وسلم حبيبًا خليلًا أي فقيرًا من الخلة الحاجة لأنه افتقر بالكلية إلى الله في كل أحواله. والفرق بين مقام الخليل ومقام الحبيب أن الخليل اتخذ الآلهة عدوًا في الله {فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين} [الشعراء: 77] والحبيب اتخذ نفسه عدوًا في الله وقال: ليت رب محمد لم يخلق محمدًا وهذا مقام الفناء في الفناء بل البقاء بعد الفناء فلا جرم يقول بالرب عن الرب. اهـ.